
عد بنا يا زمان إلى شوارع بيروت في سنوات القتال ... إلى أيام الحرب "الأهلية... بمحليّة" اللبنانية ...
عد بنا يا زمان إلى أكياس المتاريس وخطوط النار ... والجرائم والمجازر المتبادلة بين الميليشيات المتقاتلة ...
عد بنا إلى حي السلم وعين الرمانة والبربارة والدامور والكرنتينا وعين المريسة ...
عد بنا إلى أيام المعابروالمجازر والتقسيم والـ"شرقية" والـ"الغربية" ...
وعد بنا ،وبالذات، إلى بيروت "الغربية" ....
بيروت "الغربية " حيث كان تقطن هناك إمرأة عجوز ، متجعدة الوجه ، أكل من عمرها العمرُ
والأيام والسنون ...والحرمان ...
كانت هذه العجوز وحيدة ، "يتيمة " ، فقيرة الحال ، قد مات زوجها في الحرب ، وسافر أولادها ... ،
وكانت هي مصابة بـ "هيداك المرض" كما نسميه نحن أو بـ" السرطان" كما "يلقبونه" هناك في الغرب ...
هذه العجوز كانت ذي ديانة "مسيحية" وكانت تقطن في ما يسمى بيروت "الغربية"
ولم تتركها حتى في ظل الحرب ...
ولأنها وحيدة ... ولا أهل لها ولا أقارب (كلهم يسكنون في "الشرقية ")،
أمضت هذه العجوز أيامها ولياليها تعتني بالقطط التي كانت تربيها...
تـُقدم لها ما تيّسر من الطعام ، تهتم بها ، تلعب معها، تمازحها ... ربما لأنها وجدت أن هذه القطط
"الأليفة" هي أرحم عليها وأرأف بها من تلك الميليشيات المتقاتلة التي كانت تجوب الشوارع آنذاك
ليلا ً نهارا ً... تتنافس فيما بينها بالمجازر التي ترتكبها بحق العجـّز والشيوخ والأطفال والنساء ...
أو ربما وجدت هذه العجوز أن القطط تلك هي أقرب لها من الإنسان ...
فالقطط هذه ، لم تسألها يوما ً عن هويتها ولا عن طائفتها ولا عن مذهبها ولا عن دينها ،
ولم تقتلها على حاجز ما ... أو في ثكنة ما ... أو في زاروبٍ ما .... كما كان يفعل أقطاب "ثقافة الحياة" الآن ..
فالقطط ، كما أدركت العجوز ، لا تتعصب إلى طائفة أو مذهب أو دين...
لم تجد بين هذه القطط قطة تكذب على القطط الأخرى في أيام الإنتخابات ... وتغدقهم بالوعود
على أي حال ...
مرت الأيام وكأنها دهور ...
وكانت أصوات القذائف تتشابك في السماء ... وعلى الأرض " يتباطح " الزعماء...،
و "هيداك المرض" اللئيم متغلغل في الدماء ...
ألم وقهروعذاب ... ولا سلوة لها إلا الحيوانات ...
صمدت هذه العجوز طويلا ولكنها ماتت في النهاية ... ماتت وحيدة ...
وبالتأكيد لم يسأل عنها أحد وهي حيـّة ...
لأنها فقيرة ، وزوجها كان عاملا ً مسكين ، ولم يكونا "طائفيين" ...
وبما أن هذه العجوز كانت مسيحية وكانت تقطن بيروت " الغربية " ...
وبما أنها ماتت الآن ... وأصبحت جثة هامدة ... فأين الدفن يا ترى ...؟؟؟؟؟؟؟؟
لا يمكن دفنها في "الغربية" بين "المسلمين "من الأموات ... فعظام "المسلمين" ، وهي تحت التراب ،
لا يجوز " شرعا ً " أن تـُدفن إلى جانب "عظام" المسيحيين ... والعكس أيضا ً صحيح..
لا يمكن أيضا ً ،بل من الإستحالة أن تـُنقل إلى "الشرقية " عبر خطوط التماس، لأنها ستنشطر فجأة إلى
أربعة أو خمسة جثث متهاوية ... مضافا ً إليها جثث حامليها وناقليها ... وحينها سيصبح النقل أصعب
.. والحمل "أثقل" ... و " أكلف" ....
إذا ً ما العمل ؟ اجتمع بعض علماء الدين ذات يوم ، وقرروا ما يلي :
تــُعتبرهذه العجوز ، أي الجثة الهامدة التي لم يعد باستطاعتها النطق ، مسلمة ، لأنها قد "نطقت" بالشهادتين ...
(أي أنها نطقت بعد موتها!!! ) ... أي أنها قررت اعتناق الدين الإسلامي بعد موتها ، وبالتالي فهي الآن مسلمة وسيتم دفنها بين المسلمين ... وفي الغربية !
وهذا ما جرى وحصل بالتحديد والتفصيل !!! ...
يا ألله ما أجملك يا وطني ... يا ألله تنصرهذه الطائفية في بلدي ... وهذه المذهبية في بلدي ...
وهذه الديمقراطية في بلدي ...
ويا ألله ما أجمل فصول هذه المسرحية ... التي كـُتبت وصـُوّرت وعـُرضت في بلدي !
تـُرى لماذا لا نـُعامـِل الأحياء بيننا كما نعامل الأموات؟ ...
تـُرى لماذا حين يفنا المرء ويتحول رمادا ً يصبح فجأة واحدا ً منا بعد أن كنا " نـُغسـِّله وننشره "
عشرين مرة في اليوم؟
ولماذا نقدم له الورد والأكاليل بعد أن نكون قد " هتكنا دين سلافو" وهو حي ...؟
تـُرى لماذا نتبادل المجاملات في اجتماعات "العائلات" الموسمية
وفي حفلات "الكوكتيل" وفي طاولات "الحوار" ...ونحن نمشي والحقد يسكننا ويعمي قلوبنا في الليل والنهار؟
ما هو هذا البلد الذي يـُمَجـِّد الأموات ويـُذل الأحياء؟ ...
ما هو هذا البلد الذي يترك الأرض ليحصل على السماء؟
ما هو هذا البلد الذي يتقاتل أهله فيما بينهم بالمدافع والرصاص
بينما نراهم يتسابقون لرش الأرزّ على الصدور...
متى كانت هذه الصدور لجنودٍ طامعين محتلينَ .. أجانب ؟
ما هو هذا البلد الذي ، ونحن الآن في القرن الواحد والعشرين ، وما زال الواحد منا كلما أراد
أن يتكلم عن مرض السرطان ، يقول همسا ً بل .. يتمتم خجلا ً ... "هيداك المرض"!!! .... ؟
"مات بهيداك المرض" .... " شو بو؟" - "صايبو هيداك المرض" ...
ماذا نسمي مرض" الإيدز" إذن ؟ ...
وماذا نسّمي ذاك المرض الأزلي الأبدي المتحكم في بلدي منذ ولادته وحتى يوم مماته ... والذي هو أخطر وأشرس ... وضحاياه أكثر وأكثر بكثير من مرض السرطان أو الأيدز مجتمعين .... أي مرض "الطائفية "
اللعين ...
ماذا نسميه ...؟
فإذا كان "هيداك " إسمو "هيداك المرض" .... فبالله عليكم ،
" هيدا المرض إسمو شووووووووووووووو؟"........
ننتهي بهذا المقدار ...
وإلى أن نلتقي مجددا ً ...
سلامٌ مني إلى رماد هذه العجوزالطاهر التي كـَسَرت وانتصرت على الأعراف والتقاليد المهترئة في بلادي مرتين :
مرة ً حين صمدت في بيروت "الغربية" بالرغم من أنها "مسيحية" ، وفي ظل زمن " التفتيت " و"التقسيم" ...
ومرة حين فضّلت القطة ، أي قطة ، على كل بيكٍ .... و مير ٍ ... و زعيم ......
والتاريخ عادة لا يكتب عن هؤلاء .....
No comments:
Post a Comment