شهادة فاطمة الزهراء (عليها السلام)
بعد وفاة رسول الله (ص) اشتدَّ عليها الحزن والأسى، ونزل بها المرض لِمَا لاقَتْهُ من هجوم أَزْلامِ الزُمرة الحاكمة آنذاك على دارها، وَعَصْرِهَا بَين الحَائطِ والبَابِ، وَسُقُوطِ جَنِينِها المُحسِن (ع)، وَكَسْرِ ضِلعِها، وَغَصبِ أَرضِهَا ( فَدَك ).
فقد مشى إليها الموت سريعاً وهي (ع) في شبابها الغَض، وقد حان موعد اللقاء القريب بينها (ع) وبين أبيها (ص) الذي غاب عنها، وغابت معه عواطفه الفَيَّاضة .
وَلَمَّا بدت لها طلائع الرحيل عن هذه الحياة طَلَبتْ حضورَ أمير المؤمنين علي (ع)، فَعَهدتْ إليهِ بِوَصِيَّتِها ، ومضمون الوصية: أن يُوارِي (ع) جثمانها المقدس (ع) في غَلس اللَّيل البهيم، وأن لا يُشَيِّعُها أحد من الذين هَضَمُوهَا، لأنهم أَعداؤها (ع) وأعداء أبيها (ص) - على حَدِّ تعبيرها - .
كَما عَهدت إليه أن يتزوَّج من بعدها بابنة أختها أمَامَة، لأنَّها تقوم بِرِعَايَة ولديها الحسن والحسين ( عليهما السلام ) اللَّذَين هما أعزُّ عندها من الحياة.
وعهدت إليه أن يعفي موضع قبرها، ليكون رمزاً لِغَضَبِهَا غير قابلٍ للتأويل على مَمَرِّ الأجيال الصاعدة .
وضمن لها أمير المؤمنين (ع) جميع ما عَهدَت إليه، وانصرف عنها (ع) وهو غارق في الأسى والشجون .
وفي آخر يوم من حياتها (ع) ظهر بعض التحسّن على صحتها ، وكانت بادية الفرح والسرور، فقد علمت (ع) أنها في يومها تلحق بأبيها (ص) .
وكان ذلك في ( 13 من جمادي الأول ) من سنة ( 11 هـ ) ، وفي رواية أخرى أنه كان في ( 8 ربيع الثاني ) من نفس السنة ، وفي رواية أخرى في ( 3 جمادي الثاني ) من نفس السنة أيضاً .
وهرع الناس من كل صوب نحو بيت الإمام (ع) وهم يذرفون الدموع على وديعة نبيهم (ص)، فقد انطوت بموت الزهراء (ع) آخر صفحة من صحفات النبوة، وتذكروا بموتها عطف الرسول (ص) عليهم، وقد ارتَجَّت المدينة المنورة من الصراخ والعويل .
وعهد الإمام (ع) إلى سَلمَان أن يقول للناس بأن مواراة بضعة النبي (ص) تأخّر هذه العشية، وتفرقت الجماهير .
ولما مضى من الليل شَطرُهُ، قام الإمام (ع) فغسَّل الجسد الطاهر، ومعه أسماء والحسنان ( عليهما السلام )، وقد أخذت اللوعة بمجامع قلوبهم .
وبعد أن أدرجها في أكفانها دعا بأطفالها – الذين لم ينتهلوا من حنان أُمِّهم – ليلقوا عليها النظرة الأخيرة، وقد مادت الأرض من كثرة صراخهم وعويلهم، وبعد انتهاء الوداع عقد الإمام الرداء عليها .
ولما حَلَّ الهزيع الأخير من الليل قام (ع) فصلّى عليها ، وعهد إلى بني هاشم وخُلَّصِ أصحابه أن يحملوا الجثمان المقدّس إلى مثواه الأخير .
ولم يخبر (ع) أي أحد بذلك ، سوى تلك الصفوة من أصحابه الخُلَّص وأهل بيته (ع) .
وأودعها في قبرها وأهال عليها التراب، ووقف (ع) على حافة القبر، وهو يروي ثراه بدموع عينيه، واندفع يُؤَبِّنها بهذه الكلمات التي تمثل لوعته وحزنه على هذا الرزء القاصم قائلاً: ( السَّلام عَليكَ يا رسولَ الله عَنِّي وعنِ ابنَتِك النَّازِلَة في جوارك ، السريعة اللحاق بك ، قَلَّ يا رسولَ الله عن صَفِيَّتِك صَبرِي ، وَرَقَّ عنها تَجَلُّدِي ، إِلاَّ أنَّ في التأسِّي بِعظِيم فرقَتِك وَفَادحِ مُصِبَيتِك مَوضِعَ تَعَزٍّ ، فَلَقد وَسَّدتُكَ فِي مَلحُودَةِ قَبرِك ، وَفَاضَت بَينَ نَحري وصَدرِي نَفسُكَ .
إِنَّـا لله وإنَّا إليه راجعون ، لقد استُرجِعَتْ الوَديعةُ ، وأُخِذَتْ الرَّهينَة ، أمَّا حُزنِي فَسَرْمَدْ ، وَأمَّا لَيلِي فَمُسَهَّدْ ، إلى أَنْ يختارَ اللهُ لي دارَك التي أنتَ بِها مُقيم ، وَسَتُنَبِّئُكَ ابنتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ على هَضمِها ، فَاحفِهَا السُّؤَالَ ، واستَخبِرْهَا الحَالَ ) .
No comments:
Post a Comment